Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

في الكتابات العربية، والغربية التي تتحدث عن العالم العربي، هناك عدة اتجاهات شائعة في نقد نشاط 'المنظمات غير الحكومية'" العاملة في حقول التنمية والتعاون الدولي، ومؤسسات حقوق الإنسان، والتي عادة ما تعمل بتمويل ودعم غربيين. وغالبًا ما يكون هذا النقد متشبعًا، بشكل مسبق، بميول أيدولوجية"

مصطفى عبد الظاهر

حقوق الإنسان و'مناطقُ الوَعيِ المُحَرَّر'""

"

في الكتابات العربية، والغربية التي تتحدث عن العالم العربي، هناك عدة اتجاهات شائعة في نقد نشاط "المنظمات غير الحكومية" العاملة في حقول التنمية والتعاون الدولي، ومؤسسات حقوق الإنسان، والتي عادة ما تعمل بتمويل ودعم غربيين. وغالبًا ما يكون هذا النقد متشبعًا، بشكل مسبق، بميول أيدولوجية، أو مواقف سياسية تحولت فجأة لمواقف نظرية. بإيجاز يقتضيه السياق، يرى بعض النقاد أن "الإنساني" في "حقوق الإنسان" مفهوم شديد العمومية، ومن ثم، يمكن ببساطة التلاعب به واختطافه لدعم مجموعات وقضايا بعينها. ويرى أخرون، وخصوصًا من القوميين والعروبيين، أن نشاط مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية في العالم العربي – الذي يوصف أحيانًا بانه شكل جديد من أشكال الحركات الاجتماعية – عادة ما تعمل ضمن سياق نظري أورومركزية محددة سلفًا؛ تُعلي من شأن الفردي والخاص، والحق الشخصي، على حساب "القضايا الوطنية الكُبرى" التي يُخاف عليها أحيانًا – لأسباب هوياتية على الأغلب – من التحرر الفردي وممارسة الحياة الشخصية بأي صورة كانت.

يذهب آخرون، إلى أن أزمة الأولويات في العمل التنموي والحقوقي هي مكمن الخلاف الأكبر، فحقوق الإنسان تولي العناية الأكبر للحريات الشخصية على حساب القضايا الجماعية، مثل قضايا الفقر والتعليم والصحة. ويتمسك آخرون بما يُسميه ماو تسي تونج "النطاق المركزي" فيرون أن حقوق الإنسان مشكلة هامشية إذا ما قورنت بقضايا أكبر – العداء للإمبريالية على سبيل المثال – فإن كان الحق الشخصي سيُهدر أثناء حرب كُبرى فلا ضير، على طريقة العبارة الشهيرة التي سرعان ما تحولت إلى نٌكتة " أثناء الحروب لا تحدثني عن حقوق الإنسان". وعادة ما يشترك أصحاب هذا الرأي، مع آخرين متأثرين أكثر بدراسات ما بعد الاستعمار، في أن مواقفهم السياسية تميل دائمًا إلى دعم الممارسات الشمولية والدكتاتورية، ويرون أن إهدار "الإنسان" نفسه، قد يكون ضريبة مقبولة إذا ما قورن بـ "قضايا الإنسان".

وللحق هناك العديد من أشكال وأيدولوجيات السياسات الرجعية التي تتبنى مثل هذا النقد، لأسباب شتى، عادة ما ترجع في نهاية مطافها إلى شكل هوياتي محض من الشمولية. وبعضها قد وُرث كابرًا عن كابر من عصور أخرى كان مدارها بالفعل حول صراعات مركزية، لكن لم يتبقى منها إلا الشعار والاسم وفزاعة القضية الأخلاقية الكُبرى. والواقع أيضًا، أن عمل المنظمات غير الحكومية في العالم العربي، والعمل الحقوقي خاصة، يسير في درب يعج بالمشكلات، ولا تخلو أسباب مشكلاته من تناقضات ذاتية على مستوى ممارسة تلك المؤسسات ذاتها. لقد واجه العمل الحقوقي العديد من أشكال النقد الموضوعي والذاتي، لكنني أريد هنا ان أسلط الضوء على شكل جديد من العطب الذي قد يزيد من مشكلات العمل الحقوقي، بوصفه نشاط من أنشطة العمل العام، فوق ما يواجهه بالفعل من مشكلات.

إن المجال العام ليس مساحة معطاة سلفًا تتكون من مجموعة من المُثُل، بل سيرورة من العمليات والتناقضات والتضارب، تشكلها الأحاسيس والآمال والمصالح، في أفق من الممكنات الموضوعية. والمحاكاة هي شكل الممارسة الحاكم على العمل ضمنه، إلى أن يصل إلى لحظة سياسية من التمزق، تتيح فرض أسئلة جديدة – وهل لحظة سياسية بامتياز – وما تلبث تتحول لسيرورة جديدة من المحاكاة. من هذا التعريف المقتضب، الذي ستتبين بعض مكوناته خلال ثنايا المقال، يمكننا أن نستشف طبيعة أزمة العمل الحقوقي في الشرق الأوسط، وفي مصر خصوصًا، وأزمة "النضال القانوني" بشكل عام.

في المؤسسات الحقوقية الأكبر حجمًا العاملة في العالم الغربي، يمكنك ببساطة أن تلاحظ اختلافًا واسعًا في كل شيء، وأول ما يلفت النظر هو الاختلاف على مستوى الآليات؛ يُمكن لهذه المؤسسات أن تستخدم العديد من أدوات العمل العام، نظرًا لما تتيحه بنية الحياة الديمقراطية في هذه الدول، من الدعم السياسي والقانوني، ولا تنتهي هذه الأدوات بالتمثيل النيابي وحرية الرأي، حتى في السخرية من كبار "الرموز"، والتظاهر والحشد وتعبئة الرأي العام ضد خطط سياسية كٌبرى. لكن الدعم الذي تقدمه هذه المؤسسات، لشبيهتها الأقل حجمًا وتأثيرًا في العالم العربي – وهو دعم مادي وسياسي لا يُتصور استمرار المؤسسات العاملة في العالم "الثالث" بدونه – يظل مُقيّدًا بمصفوفة موضوعة سلفًا من القضايا، التي تنبع في أصلها من تصور غربي- لا تخفى صلته بالاستشراق- عن العالم العربي والشرق الأوسط، وهو تصور منغرس في طبيعة جوهرانية حول "الشرق" وما قد يُهم الغرب حول الشرق – كمنطقة لا تُعاني إلا من اضطهاد النساء على سبيل المثال. هذا ليس أمرًا سيئًا في ذاته؛ فتدشين حملة لتعزيز حقوق النساء في أماكن العمل، أو دعمهن ضد التحرّش والاعتداء الجنسي، سيفيد شريحة مضُطّهدة لم تكن لتجد صوتها من قبل.


ومع ذلك، فتقييد الدعم المادي السياسي بأشكال مُعدّة سلفًا من القضايا، بالإضافة إلى التضييق التي تُمارسه السُلطات السياسية في دول مثل دولنا في العالم العربي على جميع الفاعلين السياسيين، ومنعهم من العمل العام بكافة أشكاله؛ بداية من التمثيل السياسي والنيابي الرسمي، إلى التضييق والتشويه الإعلامي، وعدائها لكافة أشكال الاختلاف الديني والعرقي والطائفي والسياسي، وتحسسها من النقد حتى لو كان "منشورًا" على "فيس بوك" أو مدونة شخصية، تدلي فيها برأيك في قضايا تمس حياتك الاجتماعية والسياسية، أو الشخصية حتى، ناهيك من كافة أشكالا لعنف المادي التي قد تُمارس ضدك إن تجرأت وفكرت، مجرد التفكير، في التظاهر. هذا التقييد، وهو ما يمثل الظروف الموضوعية الحاكمة لممارسة "طرح الأسئلة العمومية"، وفي ظل التقييد المبدئي الذي تقع تحت وطأته منظمات حقوق الإنسان من أجل الحصول على التمويل والدعم المادي والسياسي، الأمر الذي قد يفهم أحيانًا بشكل ذاتي – قاصر على الأغلب – على أنه "دكتاتورية الواصل للتمويل"، يكتسب العمل الحقوقي طبيعة "شعائرية" والتي تؤدي بدورها إلى إنتاج أشكال "مُعتادة" من القضايا، وأشكال "طقوسية" من التضامن، لا يمكن الخروج منها إلى غيرها الذي سيبدو غريبًا وفاقدًا للسياق من حيث ذاته.

 

لنرى مثلًا طريقة عمل حملات المناصرة التي تقودها منظمات حقوق الإنسان على شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت: هب أنها حملة معنية بقضية من قضايا التحرش على سبيل المثال؛ هذا النوع من الحملات الموجه لجمهور واسع، هو جمهور مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، تقوم بعملية فرز واصطفاء لجمهورها، حسب ميولهم ونمط حياتهم الذي يتحدد على أساسهم دعمهم لقضايا دون الأخرى، وتعاطفهم مع "ناجين" بعينهم. هذه النسبة من الجمهور التي تجد في نفسها الميل للتعاطف مع القضية – أو مع هذا النوع من القضايا – ربما يكون دافعها التعاطف أو التقارب الطبقي أو المخاوف الاجتماعية على نمط حياة متشابه تعرض للانتهاك أو تطلعاتها الطبقية، أو لأي سبب مشابه؛ ستلتف هذه الفئة حول القضية، وستطور مراحل القضية ومسارها والجدل حولها طبيعة الحجج والنقاش الدائر بين مناصريها ومنتقديها، مما سيعني إنتاج قناعات بمقولات أدى إليها النقاش، سيسهل بعد ذلك استخدامها في نقاشات أخرى كمقولات جاهزة دون الحاجة لمُساءلة حججها المنطقية أو العملية، وستحتل هذه المقولات مساحة من تفكير هذه الفئة وحياتها اليومية التي ستجتمع وتُسارع للتضامن مع نفس نوعية القضايا في المستقبل. ستتحول هذه الفئة، إلى قاعدة جماهيرية "طليعية"، عن طريق ما اكتسبته من طرق الإقناع التي طورتها نقاشات سابقة، لكن الخطوة التالية، وهي عملية إنسانية متكررة في كافة نشاطات الحياة، أن "الجمهور" سيصبح " صانع قضاياه" بعد أن كان "هدفًا للدعوة" إلى هذه القضايا. وسيقوم هو بنفسه بعملية الفرز والاصطفاء، تجاه القضايا هذه المرة. فلو قررت مؤسسة ما تدشين حملة دعم لقضية من نوع آخر، لنقل: قضية اجتماعية أوسع كالعدالة الضريبية أو إدارة الموارد المائية؛ ستكون مُطالبة بتكوين قاعدة جماهيرية جديدة أبعد وأصعب هذه المرة، وأقل عددًا، إذ لن يجد جمهورها السابق ما يألفه في مثل هذه القضايا. الجمهور، إذن، هو الذي "اعتاد" ثم مارس سلطته الجماهيرية على "الموضوع"، وحدد ما يصلح أن يكون "عامًا” وما لا يصلح، ويُنتج "مناطق محررة" على مستوى الوعي.

 

إن خطورة "مناطق الوعي المحررة" على الشأن العام تنبع من أنها تُغني الجمهور، الذي اخترعها من خلال التزامه بمناصرة مجموعة محددة سلفًا من القضايا، عن الالتفات لأية قضايا أخرى، سيعتبرها حينئذ غريبة عن وعيه، وربما يتخوف من أن تورطه في المخاطرة بالأمان الذي وفّرته له منطقته المحررة؛ إذ تملء حياته اليومية بمفهوم محدد عن "العمل العام"، الذي يخلق بدوره اتحادًا والتصاقًا بين العمل العام والمصلحة الشخصية. تصبح المصلحة الشخصية هنا هي عين الشأن العام، والعكس صحيح، مما يقضي على ثنائية "عام/ خاص" الشهيرة – التي ربما لاقت تقديرًا مُبالغًا على كل حال. سيتحدد مفهوم "العام"، إذن، من خلال ارتباطه بالشخصي، وبالمصلحة الذاتية، وعلى أساسه سيجري تحديد "الأخرين" الذين كان تحديد يتم على أساس معيار الاشتراك في الأهداف العمومية، سيصبح "الآخر" هو من لا يتفق "معي" في الدفاع عن مصالحي، التي أصبحت هي نفسها الشأن العام.

 

تحول هذه السيرورة طبيعة "حقوق الإنسان" من مجال مبني على معيار شديد الاتساع "الإنسان"، الذي صُمِّم أساسًا لتجاوز سلبيات الأيدولوجيات التي قصرت شرط الإنسانية على فئات محددة، قد يكون الإنسان الأبيض أو الآري، أو البروليتاري او المؤمن، ليصبح مجالًا شديد الضيق يحرم العام من عموميته، ويحول الشخصي إلى عام، في عملية دائمة، ملا استمرت كلما ترسخت أكثر، وكلما صعب إعادة النظر فيها، لأنها تصبح من بداهات الحياة اليومية.

المثير للتأمل ههنا، أن تحول "السياسي" إلى "عادي" أو بدهي أو يومي، لا يعني فقط القضاء على فكرة المجال العام، بل يحرم الدفاع عن حقوق الإنسان من طبيعته السياسية، ويزيد أغلاله التي تفرضها عليه طبيعته "القانونية". إن استغلال وتحين "التمزّق" في نسيج الحياة العادية واليومية، وتكثيف "الانقطاعات" التاريخية هو معنى "السياسي" الذي يسعى إلى تثوير الإنسان ضد "عاديته" واستعدائه على ما ورثه من قناعات/ فزاعات تُنتهك حقوقه تحت اسمها وباستخدام سلطتها. أم حدوث العكس، وإن كان أمر لا مفر منه، لكنه يجب أن يكون موضوعًا أساسيًا على الأجندة النقدية المعاصرة، لإنقاذ ما تبقى من الطابع الثوري لفكرة حقوق الإنسان من هيمنة "العادي" وطمأنينة "المنطقة المُحررة" الكاذبة.

"

باحث ومترجم مصري